كنا في يوم بارد في رحلة برية ممتعة إذ مرت بنا إبل كثيرة .. فسارع بعضنا إلى الراعي طالبين منه أن يحلب بعض هذه النوق ليكون غبوقاً لهم في الصباح الباكر!! وبعد أن علمنا أنّ صاحب الإبل قد أعطى الإذن للراعي بحلبها لمن سأل من الناس.. قام الراعي مستجيباً للطلب وسارع إلى آنية معه واتجه بها إلى أحد هذه النوق لحلبها .. أخذني الفضول واقتربت منه وهو يحلب ناقة ترتفع عن الأرض أكثر من متر وتمتد على الأرض بضعة مترات!! فقلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله .. فنظرت إلى الراعي وأصابعه تمتد إلى ضرع الناقة فرأيت يديه يشوبهما شيء من الأملاح البيضاء التي بقيت على يديه بعد تبخُّر العرق الذي تفرزه الأيدي أثناء المشي الطويل في يوم مشمس!! وإذا بأظافره الطويلة تخبئ تحتها تركيزاً عالياً من الأوساخ المتراكمة ربما لمدة شهر!! ولما تحوَّل بصري إلى الآنية التي يحملها إذا بها تحمل بقايا من حليب الأمس الذي تفضل به الراعي على أناس آخرين .. وإذا بأعلى الآنية المهشمة خدوش تراكم عليها الصدأ .. ونظرت إلى أسفل الآنية من الخارج فإذا ببقايا جناح طائر صغير يدعى ذباباً التصق عليها ليدل على أن هذه الآنية لم تمرّ على الماء منذ أسبوع على الأقلّّ .. استوقفت الراعي عن الحلب وقلت له: هل شرب هذا اليوم في هذه الطاسة أحد غيرنا؟ قال: نعم كثير .. فاستطردت قائلاً: ولكن هذه الآنية غير نظيفة بل ويداك بحاجة إلى تربيص لمدة ساعات في الماء والصابون والكلوركس .. فإذا بضحكات تملأ الجو من زملائي وهم يقولون: ألم تعلم أنّ حليب الإبل يقتل كلّ الجراثيم وينظف المكان الذي يقع عليه .. ثم تقدم أحدهم بشجاعة وقال: هات الحليب فإذا بك تسمع طرقعة الحليب يسرع من الآنية إلى معدته. فشربوا إلاّ قليلاً منا. على أعقاب هذا المشهد قلت في نفسي: أليس من المجدي أن نخضع هذا الحليب إلى الدراسة العلمية بدلاً من الافتراضات الجدلية؟ بلا!! سارعت إلى الراعي قبل ذهابه وأخذت قارورة مياه صحية معبأ سكبت ما فيها من الماء، وطلبت من الراعي أن يحلب لي بنفس الطريقة. سكبت الحليب من الآنية إلى القارورة ووضعتها في حافظة ثلج حتى رجعنا وأخذتها في الصباح الباكر إلى معمل الميكروبيولجيا في الكلية ليبدأ التحليل لهذه العينة .
أمّا الزملاء المشاركون في هذه الرحلة فصاروا بقية يومهم يتندّرون بما فعلت رغم ما أصابهم من نزلات معوية وإسهال جعل بعضهم يراجع المستشفى في اليوم نفسه !!


لقد كانت نتائج التحليل مذهلة أبانت عن تلوُّث ذلك الحليب بعدد من البكتريا الممرضة .. مما شجعني أن أبدأ مشروعاً لفحص التلوث الميكروبي لعدد كبير من عينات حليب الإبل .. بالفعل انتشر الفريق البحثي المكون مني شخصياً ومن سعادة الدكتور محمد الزيني (أستاذ ميكروبيولجيا الألبان) والفني عمر جمعة أبوجياب والفني محمد العمير .. وجمعت أكثر من سبعين عينة من الحليب بالطريقة نفسها. وتم بالفعل فحص الجودة والسلامة الميكروبية لهذه العينات من حليب الإبل وذلك عن طريق تحليل محددات الجودة الميكروبية Microbial Qualiy Attributers بتلك العينات والتي شملت تقدير العد الكلي للميكروبات الهوائية، البكتريا المحبة للبرودة، البكتريا المتجرثمة (التي تتحمّل حرارة البسترة) الهوائية، ومجموعة بكتريا القولون الكلي والقولون الغائطي والذي يدل وجودها على وجود تلوث بفضلات آدمية أو حيوانية، كما شمل الفحص لعدد الفطريات والخمائر .. هذا بالإضافة إلى التعرُّف على معدل وجود بعض البكتريا الممرضة مثل بكتريا المكور العنقودي الذهبي Staphylococcus aureus ومجموعة بكتريا السالمونيلا Salmonella، وذلك لأهميتها في إحداث التسمم الغذائي ليس فقط في اللبن ومنتجاته ولكن في أغلب أنواع الأغذية.
وقد أظهرت النتائج المتحصّل عليها أن حوالي نصف العينات المختبرة تقع خارج الحدود المقبولة (390 ألف خلية – مل حليب) طبقاً للمواصفة القياسية الخاصة بالحليب الخام المرخص (Certified milk) ضمن المواصفات القياسية للسوق الأوروبية EEC وكذلك محددات الجودة الصادرة عن رابطة الصحة العامة الأمريكية APHA. كما بلغ حجم التلوث بمجموعة بكتريا القولون 45% بينما كانت نسبة العينات الموجبة لوجود مجموعة بكتريا القولون الغائطي 12% .. والأدهى والأمر أن بكتريا المكور العنقودي الذهبي Staphy lococcus aureus عزلت من 70% من العينات، في حين بلغت نسبة العينات المرفوضة نظراً لارتفاع أعداد هذا الميكروب فيها عن الحدود المسموح بها طبقاً لتشريعات السوق الأوروبية إلى 51% ارتفع معدل وجود ميكروب السالمونيلا لتصل إلى 24% !!


إنّ هذه النتائج تلح وبشكل لا يقبل التأخير على ضرورة إيجاد برامج توعوية تقنع الناس بضرورة تعقيم الحليب الخام قبل شربه وضرورة إصدار تشريعات لإنتاج وتداول حليب الإبل الخام المرخص ومن ثم اشتراط حصول المزارع التي تنتج وتبيع الحليب الخام على تراخيص تتيح لها هبة أو بيع الحليب طالما التزمت الممارسات الصحية واجتاز الحليب المنتج فيها المواصفات القياسية الموضوعة .
إن الحليب الخام الملوث كان سبباً مباشراً في نقل وتفشي الأمراض الخطيرة مثل السل والدفتريا وحمى التيفويد والتسمم الغذائي .. الأمر الذي جعل العديد من الدول تمنع تداول الحليب إلا بعد معاملته حرارياً بالبسترة.
إن هذه الدراسة السريعة تؤكد أهمية القيام ببحث متكامل حول ظروف إنتاج الحليب في المزارع الصغيرة، وتحديد أسباب التلوث وطرق منعه، وكذلك وضع برامج إرشادية توعوية وتدريبية حول الممارسات الصحية للعاملين داخل تلك المزارع، مع سرعة إصدار مواصفة قياسية للحليب الخام المرخص، وذلك حتى يكون الحليب شراباً سائغاً نافعاً غير ضار

إرسال تعليق

Global For Vet

{picture#https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjR9FUe4NGNY0xtkt_Timb4uFEU9FtHpD9YwSsjcDe_D8VzEqveZGBWDtRljJooCKJgt78ssLM_GqA7hyphenhyphenD_Qn0m8yV6MsPtzlQw1IlHyG0sT06Qw51cp2GwKP_hxJNIxxF4k3jxGGhtZ0s/s0/%25D8%25B4%25D8%25A7%25D9%2585%25D9%2584.jpg} اعجبك المقال يرجى مشاركة الموضوع لتعم الفائدة
يتم التشغيل بواسطة Blogger.